- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
فروض الحج :
1 ـ الإحرام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في موضوع الحج، و قد تحدَّثتُ إليكم في الدرس الماضي عن فرضية الحج، وعن فوائد الحج و شروط وجوب أدائه، وعن شروط صحة الأداءِ، وعمَا إذا كان الحجُّ واجبًا على الفور أو على التَّراخي، واليوم ننتقل إلى ثلاثة موضوعات: الموضوع الأول : فروض الحج، و الموضوع الثاني : واجبات الحج، و الموضوع الثالث : سنن الحج.
فمن فروض الحج الإحرام، والإحرام عند الأئمة الثلاثة ركن، عند الإمام أبي حنيفة شرطٌ، ومعنى الشرط أنه يجب أن يستمر طوال أداء الفريضة، كأن تكون متوضِّئا للصلاة، واستقبال القبلة شرط للصلاة، فالشرطُ يستمر طوال العبادة، بينما الركن ينقضي بانقضاء أفعاله.
وعلى كلٍّ فالإحرامُ في حقيقته نيِّةٌ بالقلب، وتلبيةٌ باللسان، من غير فاصلٍ أجنبيٍّ بين النية والتلبية، فإذا نوى الإنسانُ الحجَّ والتقى مع إنسان و تحدَّثوا في موضوع تجاري، ثم عاد فقال: لبيك اللهم لبيك، هذا غلطٌ، نيَّةٌ بالقلب وتلبية باللسان من دون أن يكون بينهما فاصل أجنبيٌّ، والتلبية كما وردت عن النبي عليه الصلاة و السلام: " لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك."
أمَّا النية فيستحب أن يلفظها الإنسانُ بلسانه، و إن كانت النية من عمل القلب، فيقول الحاجُّ مثلا: لبَّيك بحجّ و عمرة، اللهمَّ تقبَّلهما مني و يسِّرهما لي، أو لبيك بحج، اللهم تقبَّله مني و يسِّره لي، هذا إذا كان مُفرِداً، أمّا إذا كان متمتِّعاً أو قارناً يقول: لبيك بعمرة و حج، يبدأ بالعمرة، و إذا كان مفرداً يقول: لبيك بحج، فالنية التي يلفظها الإنسانُ بلسانه مع التلبية هذا هو الإحرامُ .
2 ـ الوقوف بعرفة في وقته :
الفرضُ الثاني، الوقوف بعرفة في وقته لِما رواه الترمذي :
((عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْه))
ووقته من زوال يوم عرفة من بعد الظهر ؛ إلى قبيل طلوع الفجر من يوم النحر، هذا الفرض الثاني، فالإحرام هو الفرض الأول، و الوقوفُ بعرفة هو الفرض الثاني.
3 ـ طواف الزيارة :
الفرض الثالث ؛ طواف الزيارة، فالطواف سبعة أشواط، أربعة منها فرضٌ، و طواف الزيارة هو طواف الركن، بعدَ أن يأتيَ الحاجُّ من عرفات إلى مزدلفة إلى رمي الجِمار، يتوجَّه إلى الكعبة ليطوف طواف الركن، هذا الطواف أحدُ أركان الحج، أيضًا الطوافُ في وقته حول الكعبة، قال تعالى:
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ﴾
الترتيب بين الفرائض :
ويلحق بهذه الفرائض الترتيبُ بين الفرائض، فهل يُعقَل أن الإنسانَ يقف في عرفات قبل أن يحرِم؟ هذا مستحيل، إذًا لا بد الترتيب بين الفرائض، فالإحرامُ أولاً، والوقوف بعرفة ثانياً، والطواف حول الكعبة ثالثاً، بهذا الترتيب، والترتيب جزءٌ أساسيٌّ من أركان الحج.
الآن مما يكفي في أركان الحج أن يُؤدَّى كلُّ فرض في وقته و مكانه، كلُّ فرض من فرائض الحج له وقتٌ مخصوص و مكان مخصوص، لذلك قالوا في تعريف الحج: هو عبادة بدنية مالية مكانية زمانية روحية، فالوقوف بعرفة وقتُه كما ذكرنا من زوال يوم عرفة إلى قبيل فجر يوم النحر، و المكانُ أرضُ عرفات، و وقتُ الطواف بعد فجر يوم النحر وإلى آخر العمر، و لو أخَّره لكان طوافُ الركن مقبولاً، ومكانه المسجدُ الحرامُ، و حول الكعبةِ.
فهذه الفرائض لا يصِحُّ الحجُّ إلا بوجودها جميعاً، فلو ترك الحاجُّ واحدًا منها لم يصحُّ حجُّه، سواء أكان هذا التركُ عن عمْدٍ أو عن سهوٍ أو عن خطأٍ أو عن جهلٍ، فالأمرُ سِيَانِ، ولو ترك أحدَ هذه الفرائض عامدًا أو ساهيًا أو مخطِئًا أو جاهلاً، في كلِّ هذه الأحوال بطُل حجُّه، و هنا سؤال: إذا ترك هذه الأركان، شتَّان أن يتركها عامدًا أو ساهيا أو مخطئاً أو جاهلاً؟ نجيبه : إن الإنسانَ يكسب الإثمَ بحسب نوع هذا الترك، فإثم الذي يتركها عمدًا كبيرٌ، و الذي يتركها ساهياً أو مخطئاً فهي أقلُّ، لكن بأيَّة حال إن كان هذا التركُ عمداً فالحج باطل، أما الإثم فيتفاوت بحسب هذه الأسباب. ويضيف الإمام الشافعي رضي اللهُ عنه ركنا آخر للحج وهو السعيُ بين الصفا و المروة، وهو عند الأحناف واجب، وعند الشافعية ركن من أركان الحج، فعند الشافعية ؛ الإحرام، والوقوف بعرفة، وطوافُ الركن، والسعيُ بين الصفا والمروة، وعند الأحناف ؛ الإحرام، و الوقوف بعرفة، والطواف ؛ أيْ طواف الركن.
فهذه الواجبات إذا ترك الحاجُّ أحدَها لا تُجبَر بدمٍ، فإنْ ترك طوافَ الزيارة، هل يذبح الهديَ ؟ لا، ذلك غير مقبول منه، فلا بد أن يقف بعرفة، ولا بدَّ أن يطوف طواف الركن فإن لم يفعل فحجُّه باطلٌ.
واجبات الحج :
1 ـ إنشاءُ الإحرام من الميقات المكاني :
لكنَّ الواجبات إذا تركها الحاجُّ في الحجِّ تُجبَر بالدم، و من هذه الواجبات مثلاً ؛ إنشاءُ الإحرام من الميقات المكاني، ولو أن حاجًّا حديثَ عهدٍ بالحج، يحجُّ لأول مرة، وضع المناشف البيضاءَ في المحفظة، و صارت هذه المحفظة مع متاع الركاب إلى أسفل الطائرة، فلما ركب الطائرةَ وأعلن المُضيفُ مثلا أن الميقاتَ المكاني قد آنَ أوانُه، فطلب المحفظةَ ليأخذ منها المناسف، أين المحفظة الآن؟ فتجاوز الميقات المكاني من دون أن يحرم هذا واجب الإحرام، لذلك عليه دمٌ، أو أن يرجع إلى الميقات المكاني بعد وصوله إلى جدّة فيحرم برًّا ممكن، فإما أن يرجع إلى الميقات المكاني، وإما ان يجبر هذا الخطأ بدمٍ.
ويمكن لك أن تحرم قبل الميقات من بيتك، و لكن هناك أخطاراً كبيرة، ربما أُلغِيت رحلةُ الطائرة فوقعتَ في بعض محظورات الإحرام، لذلك أنصح الأخوةَ الحجَّاج أن يحرموا من الطائرة، و أنصحهم مرةً ثانية أنه إذا انتظر الرُّكابُ أن يُعلَن عن الميقات المكاني، ربما سَهَا المكلَّف بالإعلان عن الميقات، فإذا تجاوزته بأمتار وقعتَ في مشكلة كبيرة، فبعد أن تُقلِع الطائرة بنصف ساعة أَحرِمْ، هذا أصحُّ شيءٍ، فلا تحرِم من البيت، ولا تحرم حتى تنتظر أن يُعلَن عن الإحرام، أَحرِم بعد إقلاع الطائرة بنصف ساعة.
2 ـ تركُ لُبس المَخيط من الثيات للرجل :
ومن واجبات الحج أيضًا تركُ لُبس المَخيط من الثيات للرجل، فلا ثياب مخيطة، بل هناك رداءٌ وإزارٌ، الإزارُ يضعه على وسطه، وهنا ملاحظة، إذا نزل الإزارُ عن سرَّته وقع في مشكلةٍ، لأن ما بين السُّرَّة و الركبة عورةٌ، فيجب أن يرتفع الإزارُ إلى ما فوق السُّرة، و أما الرداءُ فيُلقَى على الكتفين، والاضطباعُ فقط في أثناء الطواف، ويمكنُ أن تضع الرداءَ الثاني على كتفيك هكذا، و كشفُ الرأس للرجل، أي أن يضع الواحدُ قبَّعةً أو لفَّةً، لا يوجَد شيءٌ من هذا، يجب أن يكون الحاجُّ مكشوفَ الرأس، أما المرأةُ فعند مقابلتها للرجال تُسدِل على وجهها منديلاً، و تجافيه عن وجهها لئلاَّ يلتصق بوجهها، و في عهد النبيِّ عليه الصلاة و السلام لم يكن هناك اختلاطٌ بين النساء والرجال، فهنا كشفُ الوجه للمرأة مقبول، لكن إذا قابلت الرجالَ يجب أن تُسدِل المرأةُ منديلاً على وجهها، وتجافيه عن وجهها، وأن تبعدَه عنه، لذلك الأخوات المؤمناتُ يضعن على جبينهن قطعة من الورق المُقوَّى و بعدها يأتي المنديلُ بعيداً عن الوجه.
3 ـ السعي بين الصفا و المروة :
ومن واجبات الحج السعيُ بين الصفا و المروة في أشهر الحج، ويكون بعد الطواف، فإن سعى بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم أجزأَه ذلك، فإن لم يسعَ بعد طواف القدوم يمكنه أن يسعى بعد طواف الركن، لا بدَّ من السعيِ بين الصفا و المروة في أشهر الحج، و لا بدَّ من المشي فيه لمَن لا عذرَ له يمنعه، فلو ترك الحاجُّ المشيَ بلا عذرٍ أعاده، فإن لم يُعِده فعليه دمٌ، تجد أناسًا راكبين عرباتٍ، و يقولون: و اللهِ هذا أكثر راحةً لنا، إنما الراحةُ للمعذور، أما الإنسان الصحيح فيركب عربةً ليسعى بين الصفا والمروة فهذا غيرُ مقبول منه، فإن فعله فعليه دمٌ، هذا عند السادة الأحناف، أما عند السادة الشافعية فقالوا: يجوز الركوبُ مع القدرة على المشي، لكنْ هذا خلافُ الأولى، والأولى أن يمشيَ، أما عند الأحناف فعليه دمٌ، أي كما ترون تنوُّعُ الأحكام فيه رحمةٌ للمسلمين، واختلاف أمتي رحمة، واتِّفاقُ الأئمة حُجَّةٌ قاطعة، و اختلافُهم رحمةٌ واسعةٌ.
4 ـ الوقوف بعرفة من زوال شمس اليوم التاسع من ذي الحِجة إلى ما بعد الغروب:
و من واجبات الحج الوقوف بعرفة من زوال شمس اليوم التاسع من ذي الحِجة إلى ما بعد الغروب، حيث يدرك الحاجُّ جزءًا من الليل، و النزول من عرفة مع الإمام أو نائبه، أي لا يخرج من عرفة إلا بعد شروع الإمام في الإفاضة.
ومن واجبات الحج أيضاً الوقوف بمزدلفة.
صورة المناسك و حقيقتها :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه المناسك لها صورةٌ و لها حقيقة، صورتها أن تقف في عرفة ولكنَّ حقيقتها أن تصحَّ المناجاةُ، وصورةُ الوقوف في مزدلفة أن تقف في المكان والزمان المناسبين، ولكنَّ حقيقتها أن تكون قريباً من الله في مزدلفة، إنها اسمٌ على مسمًّى، وأن ترميَ الجِمارَ، وصورتُها أن ترميَ هذا المكان بالحصَيَاتِ، لكنَّ حقيقتها أن ترميَ الشيطانَ، وأن تحاربه إلى الأبد، وأن تعاديَه عداءً لا رجعة فيه، فكلُّ منسك من مناسك الحج له صورة يؤدِّيها الحاجُّ، ولا بدَّ من حقيقة في داخله يشعر بها، فإذا توافقت الصورة مع الحقيقة صحَّ الحجُّ، أما من أدَّى هذه المناسكَ وهو ليس في مستواها فهذا الحجُّ يحتاج إلى إعادةٍ، لأن الله سبحانه و تعالى ما أمرك أن تأتيَ إليه من بلادك البعيدة، و أن تترك أهلك وأولادَك وعملك، وتنفق النفقات الطائلة لتكون كالسَّائح، لا، بل أرادك أن تأتيَه طائعاً، و أن تأتيَه مُخبِتًا، ومنيباً، ومحبًّا، و مناجيًا، فلذلك هذه المناسك لا يعرف طعمَها إلا من ذاقها، و ذاق الأحوالَ التي يجب أن ترافق الحاجَّ في أثناء أدائها.
5 ـ الوقوف بمزدلفة :
والوقوفُ بمزدلفة ولو لحظةً بعد فجر يوم النحر، و قبل طلوع الشمس و المبيتُ ليلا سُنَّة عند الحنفية.
6 ـ تأخير المغرب والعشاء إلى مزدلفة :
ومن واجبات الحج تأخيرُ المغرب والعشاء إلى مزدلفة، ولو أذَّن المغربُ في عرفات لا ينبغي أن تصلِّيَ المغربَ، فالمغربُ و العشاءُ يُصلَّيان في مزدلفة على شكل جمعٍ، تصلي المغربَ أولاً، ثم العشاءَ ثانياً، والجمعُ بمزدلفة بين المغرب والعشاء جمعُ تأخيرٍ، بينما جمعُ صلاة الظهر والعصر جمعُ تقديم، لذلك جمعُ التقديم يحتاج إلى أذانٍ و إقامتين، بينما جمعُ التأخير يحتاج إلى أذان وإقامة واحدة، وعند السادة الأحناف من صلى المغربَ في الطريق أو بعرفة فعليه أن يعيد صلاةَ المغربِ مع العشاء جمعَ تأخيرٍ بمزدلفة.
7 ـ رمي الجمار مرتباً في أيامها :
ورميُ الجمار مرتِّبًا في أيامها، فرميُ الجمار أيضا من واجبات الحج، لئلا يؤخِّر رميَ كلٍّ منها إلى ثانيه من الأيام الثلاثة، أي إذا أخِّر رميَ الجمار إلى وقت آخر غير وقتها فقد ترك واجباً من واجبات الحج.
8 ـ الحلق أو التقصير :
الحلقُ أو التقصيرُ لشعر الرأس كلِّه أو رُبعِه، والحلقُ أولى للرجال، و التقصير أولى للنساء، والشرعُ الحنيفُ رحِم النساءَ حيث لم يأمرْهنَّ أن يحلقن رؤوسهنّ، فهذه رحمة من الله عز وجل، الحلق للرجال أولى، و التقصيرُ للنساء أولى.
هذه ملاحظة، أحيانا يفقد الإنسانُ شعرَ رأسه، وتبقى مكانتُه هي هي، ولكن لم يُرَ في النساء امرأةً فقدتْ كلَّ شعر رأسها، هذه مِن رحمةِ الله بها، فهناك إلهٌ حكيمٌ، لأنَّ شعر المرأة جزءٌ من رأس مالها، فإذا فقدتْه كلَّه وقعتْ في أزمةٍ شديدة.
والحلقُ أو التقصيرُ لشعر الرأس كلِّه أو ربعه، و يجب أن يكون في أرض الحرم أو داخل حدوده.
بالمناسبة نحن عندنا المواقيتُ المكانية، ميقاتُ أهل الشام، ميقاتُ أهل العراق، و ميقاتُ أهل اليمن، و الميقاتُ من طرف جدَّة، لو وصلْنا خطوطًا بين هذه المواقيت المكانية نحصلُ على شكلٍ، و هذا الشكلُ يُسمَّى الحِلُّ، و الآن البيتُ الحرام له مواقيتُ خاصة به؛ التنعيم من جهة المدينة، و الجعرانة من جهة أخرى، و هناك مكانٌ من جهة الطائف، فهذه الحدودُ التي حول الحرم لو وصلنا بينها خطوطًا يصيرُ عندنا شكلان، شكلٌ يعبِّر عن المواقيت المكانية للبلاد المقدسة، و شكل آخر يعبِّر عن حدود الحرم، بين الحرم و بين المواقيت المكانية منطقة تُسمَّى الحِلُّ، ومَن يقتنِي كُتَيِّبًا عن الحج يرَ هذا الشكلَ، وهو الحِلُّ، وكلُّ منطقة لها ميقاتٌ، و الشكلُ الثاني للكعبة فيه مواقيتُ أيضًا، فهذه المنطقة التي حول الكعبة كلُّها حرَمٌ، و إذا قلنا يجب أن يحلق في الحرم، ليس معنى هذا في الكعبة ، أي في الحدود التي حول الكعبة، التنعيم باتِّجاه المدينة المنوَّرة، و الحُديبة باتِّجاه جدَّة، و الجعرانة باتِّجاه الطائف، هذه الأماكن حول الحرم، لذلك الحلقُ لشعر الرأس كلِّه أو ربعه يجب أن يكون في أرض الحرم، أو داخلَ حدوده، وفي أيام النحر بالذَّات، أوَّلُ يوم من أيام عيد الأضحى يُقال له: أوَّلُ أيام النحر، وثاني يوم: ثاني أيام النحر، وثالث يوم: ثالثُ أيام النحر، ثلاثة أيام للنحر بعد يوم عرفة، وهو ثاني يوم من أيام العيد أوّلُ أيام التشريق، وثالث يوم ثاني أيام التشريق، ورابعُ يوم ثالثُ أيام التشريق، فصار أولُ يومٍ يومَ النحر فقط، وآخرُ يوم يومُ التشريق فقط، واليومُ الثاني والثالث مشتركٌ بين النحر والتشريق، فالحلقُ يجب أن يكون في أرض الحرم أو داخل حدوده، و في أيام النحر،
ويكون الحلقُ بعد رمي جمرة العقبة لمَن أفردَ الحج، وبعد الذَّبح للقارن والمتمتِّع، وبعد السعيِ في العمرة، فالحلقُ له ثلاثُ حالات ؛ بعد الرميِ للمُفرِد، وبعد الذَّبح للقارن والمتمتِّع، وبعد السعي في العمرة.
9 ـ ذبحُ شاةٍ للقارن أو المتمتِّع :
ومن واجبات الحج ذبحُ شاةٍ للقارن أو المتمتِّع، فالقارن الذي ذهب إلى البلاد المقدسة وأحرم بعمرة وحجٍّ، وتابع بينهما مُحرِماً، أي وصل قبل عشرة أيام فأحرم بعمرة و بقي محرما إلى أن جاءتْ أيامُ الحج، فهذا قارن، فعليه هديُ شكرٍ، أمَّا المتمتِّعُ فذهب إلى مكة وأنشأ عمرةً ثم تحلَّل من ثياب الإحرام وبقي إلى أن جاء ميقاتُ الحج، فأحرم من مكة و تابع الحجَّ، فهذا متمتِّع، يجب عليه هديُ جبرٍ، والقارنُ عليه هديُ شكرٍ، بينما المفرِد لا هديَ عليه، إذًا ذبحُ شاةٍ للقارن و المتمتِّع لقوله تعالى:
﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾
أما المفرِد فلا يجب عليه الذَّبحُ بل يُسنُّ، ومن سنن الحج أن يذبح المفرِدُ، أما لو ترك الذَّبحَ فلا شيءَ عليه، أما الذَّبحُ للمتمتِّع فواجبٌ، و لو تركه وقع في مخالفة كبيرة، و يجب أن يكون الذبح قبلَ الحلق، وأن يكون الذبح في أيام النحر حصرًا، لأنه دم شكرٍ على توفيقه على أداء نسُكَيْ الحج و العمرة، فلا يجوز تقديمه على يوم النحر.
10 ـ الترتيبُ بين الرمي و الذبح و الحلق :
ومن واجبات الحج أيضا الترتيبُ بين الرمي و الذبح و الحلق، فيرتِّب القارنُ والمتمتِّعُ بينهما، بأن يفعل الرميً أوَّلاً، ثم يذبح، ثم يحلق، أما المفرِد فلا يجب عليه الذبح فيرتِّب بين الرمي و الحلق فقط.
11 ـ طواف الوداع :
و من واجبات الحج طواف الصدرِ، أو طوافُ الوداع مشيًا إلا من عذرٍ للآفاقي،
و معنى الآفاقي الذي يقدُم للحج من بلاد بعيدة
أما الذي مكانُه في الحلِّ ضمنَ المواقيت فلا عليه أن يطوف طواف الوداع، هو في البيت دائمًا، وطواف الوداع واجبٌ على الآفاقي، ويسقط على المرأة الحائض و النفساء، أما المرأةُ غيرُ الحائض فعليها طوافُ الوداع، لكنْ يُسنُّ للمرأة إذا أدركها الحيضُ و لم تطُفْ طوافَ الوداع، يُسنُّ لها أن تقف على باب الحرم و تدعو من الخارج.
12 ـ إيقاع طواف الإفاضة في يوم من أيام النحر الأول أو الثاني أو الثالث :
ومن واجبات الحج إيقاعُ طواف الإفاضةِ ؛ أي طواف الركن ؛ في يوم من أيام النحر الأول أو الثاني أو الثالث.
13 ـ أن يكون الطوافُ مشيًا إلا بعذرٍ :
ومن واجبات الحج أن يكون الطوافُ مشيًا إلا بعذرٍ، الكعبةُ أمامها يوجد قوسٌ مبنيٌّ، و ضمنَ القوس يُعدُّ داخل الكعبة، فلو طاف الإنسانُ بين الكعبة وهذا القوس فطوافُه باطلٌ، فيجب أن يطوف خلفه .
14 ـ الطهارةُ في طواف الإفاضة من الحدث الأكبر و الأصغر :
ومن واجبات الحج الطهارةُ في طواف الإفاضة من الحدث الأكبر و الأصغر، فلو طاف طواف الإفاضة جُنبًا أو حائضًا أو نفساء أثِم وعليه هديٌ، لأن الطوافَ صلاةٌ، والصلاة تحتاج إلى طهارة، لذلك فالمرأة أميرةُ الرجال في حالةٍ واحدة، حينما يأتيها حيضُها ولم تطُفْ طوافَ الركن، يجب أن ينتظرها أهلُها إلى أن تطهرَ، فهي أميرةٌ عليهم، افْعلي كلَّ شيءٍ إلاَّ أن تطوفي بالبيت، وإذا طاف الإنسانُ وهو غيرُ متوضِّئ فعليه شاةٌ، فالإنسانُ يختارُ، أيرجع ليتوضَّأ أم يذبح شاةً؟ على حسب الأسعار. أما طهارة الثوب والبدن والمكان فأكثرُ العلماء قالوا: إنها سُنةٌ، ومنهم من أوجبها.
15 ـ ستر العورة :
وسترُ العورة فيه واجب أيضًا، أي إذا أراد الإنسان أن يحُجَّ وارتدى ثياب الإحرام، فلا يليق بالحاج أن يتساهل في جلسته وقعدته، لأنه لو أن عورتَه كشفت لكان هذا قبيحًا به، فثياب الإحرام تحتاج إلى اتباهٍ شديد جدًّا، والإنسانُ حينما يرتدي ثيابًا مَخيطةً قد لا ينتبِه إلى أوضاعه في الجلوس والقعود، لكنَّ ثيابَ الإحرام تحتاج إلى انتباهٍ شديد.
16 ـ ترك المحظور في كل طواف :
ومن واجباتِ الحج تركُ المحظور في كلِّ طواف، والمحظورُ لُبسُ المخيط، وتغطية الرأس، والرَّفثُ، والفسوقُ، والجدالُ، وقتلُ الصيدِ، والإشارةُ إليه، والدلالةُ عليه كما سيمرُّ معنا في بحث الجنايات.
17 ـ المبيت في منى ليالي الرمي :
ومن واجبات الحج عند السادة الشافعية المبيتُ في مِنى ليالي الرمي، أما عند الأحناف فالمبيتُ في منى سنَّةٌ وليس واجبًا، و أن تطوف بدءًا من الحجر الأسود بعد أن تستلمَه، و أن يكون الطوافُ وراء حجر إسماعيل، و أن يكون مشيًا إلا من عذرٍ، وأن يتمَّ سبعةَ أشواط.إنّ حكمَ الواجبِ حكمُ الفرض، فإن تركتَ الفرضَ بطُل الحجُّ، أما حكمُ الواجب لو تركتَه للزمَ الجزاءُ، وهو ذبحُ شاةٍ أو سُبْع بدنةٍ، ، سبعة أشخاص يشتركون في ذبحِ جملٍ، أو سُبع بقرة، ولا يبطل الحجُّ بتركه سواء أكان سهوًا أو عمدًا أو خطأً أو نسيانًا، عالمًا بالوجوب أو جاهلاً، لكن العامدَ له إثمٌ كبير، أما النتائجُ فواحدةٌ، وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتحدَّث عن سنن الحج.
* * *
حكم دخول الحائض إلى المسجد :
والآن إلى سؤالٍ كان قد وردني من أسابيع ثلاثة حول حكم دخول الحائض إلى المسجد و في الحقيقة أن رأيَ العلماء الأربعة السادةُ الأحناف و الشافعية و الحنابلة و المالكية لهم رأيٌ موحَّدٌ، و لهم تفصيلاتٌ بحسب مذاهبهم، فيحرم على الجنبِ، لماذا الجنبُ؟ لأن حكمَ الجنب و حكم الحائض و حكم النفساء واحدٌ، فيحرم على الجنب أن يباشر عملاً من الأعمال الشرعية الموقوفة على الوضوء، و كلُّ عمل موقوف على الوضوء يحرم على الجنب أن يفعله، من باب أولى إذا كان المحدِث حدثًا أصغر لا ينبغي له أن يفعله، فالمحدِث حدثًا أكبر من باب أولى أن يغتسل، فلا يحلُّ للجنب أن يصليَ نفلاً ولا فرضًا، إلا إذا فقد الماءَ أو عجز عن استعماله لمرضٍ، مما سيأتي في أبحاث التَّيمُّم طبعًا، أما الرجل فله أن يصوم فرضاً أو نفلاً وهو جنُب ثم يغتسل بعد الفجر، وصيامه يصحُّ، لكن المرأةَ لا ينعقد صيامُها حائضًا أو نفساء. ومن الأعمال الدينية التي لا يحلُّ للجنب فعلُها قراءةُ القرآن، على المذاهب الأربعة فيحرم عليه قراءة القرآن وهو جنُبٌ، كما يحرم عليه مسُّ المصحف من بابٍ أولى، فإذا كانت قراءته لا تجوز، فمسُّ المصحف من باب أولى، لأن مسَّ المصحف لا يحلُّ بغير وضوءٍ، و لو لم يكن الشخصُ جُنُبًا، فإذا كان جنُبا من باب أولى، و قد تحدَّثتُ عن هذا طويلاً في دروس سابقة، فلا يحلُّ مسُّه للجنُب من بابٍ أولى.
أمّا موضوعُ سؤالنا، وهو دخولُ المسجد، فيحرم على الجنب أن يدخل المسجد، على أن الشرعَ الحنيفَ قد رخَّص للجنُب في تلاوة القرآن الشيءَ اليسير، وفي دخول المسجد بشروط مفصَّلة على المذاهب، و نحن سنأخذ رأيَ المذهب الحنفي في موضوع قراءة القرآن و دخول المسجد للجنُب.
رأي المذهب الحنفي في موضوع قراءة القرآن و دخول المسجد للجنُب :
السادةُ الأحنافُ قالوا: يحرُم على الجنُب تلاوةُ القرآن، قليلاً كان أو كثيرًا، إلا في حالتين؛ إحداهما: أن يفتتِح أمرًا من الأمور الهامة، كأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
((فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ أَقْطَعُ ))
فالبسملةُ مباحةٌ للجنُب، أن يُبسْمِل. ثانيها: أن يقرأ آيةً قصيرة ليدعوَ بها لأحدٍ، أو لٍيُثْنِي بها على أحدٍ، كأن يقول:
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾
أو كأن يقول:
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾
فيجوز له أن يقرأ بعضَ هذه الآيات، ويحرم على الجنب دخولُ المسجد إلا للضرورة، و ما هي الضرورة؟ منها ألا يجد ماءً يغتسل به إلا في المسجد، فلو أنّ ماءَ الغُسل موجودٌ حصرًا في المسجد وهو جنُبٌ فلا بدَّ له من دخول المسجد، أو أن يمُرَّ بالمسجد مرورًا إلى مكان ما ليغتسل، و مع هذا يجب عليه أن يتيمَّم قبل أن يمُرَّ بالمسجد.
وهناك حالةٌ ثانيةٌ ؛ إذا كان العدوُّ يتبعه وكان جنُباً، فإذا دخل المسجدَ اتَّقى شرَّ العدوِّ رحمةً به، فيجوز للجنُب أو الحائض أو النفساء أن يدخلوا المسجد خوفاً من ضرر يلحقهم، فهذا رأي الأحناف في موضوع قراءة القرآن، ودخول المسجد للجنُب والحائض و النفساء.
رأي المذهب الشافعي في موضوع قراءة القرآن و دخول المسجد للجنُب :
أما رأيُ السادةُ الشافعية فيحرم على الجنُب قراءة القرآن و لو حرفًا واحداً، إن كان قاصداً تلاوتَه، أما إذا قصد الذَّكر أو جرى على لسانه من غير قصدٍ فلا يحرم، فلو أكل فقال: بسم الله، وهي آية، أو ركب دابَّته فقال:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾
هذا ذكر. ويجوز لفاقد الطُّهورين أن يقرأ القرآن في صلاته التي أُبيحتْ له، فإن كان الإنسانٌ مسافرا وأدركتْه الجنابةُ في السفر، و لم يجد ماءٌ ليغتسل، أو ليتوضَّأ، فتيمَّم ودخل المسجدَ وصلى وقرأ القرآن، فيجوز ذلك، لأنّ هذا فاقد الطهورين، وله حكمٌ خاصٌّ، قال تعالى:
﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
ففاقدُ الطهورين له حكمٌ خاصٌّ، وكذلك الحائض والنفساءُ، أما المرورُ بالمسجد فإنه يجوز للجنُب و الحائض و النفساء من غير مُكثٍ فيه و لا تردُّدٍ، بشرط أن يأْمَن من عدم تلوُّث المسجد، أي إذا لم توجد ثقةٌ أنه ربما يصيبٌ المسجدَ دمٌ، حتى هذا المرورُ لا يجوز، فالمرورُ مسموحٌ وبشرط أن يأمن تلويثَ المسجد، فلو دخل من بابٍ و خرج من بابٍ جاز عند الشافعية، أما إذا دخل و خرج من بابٍ واحدٍ لم يجُز، لأنه صار تردُّدًا، ويجوز للمحدِث حدثًا أكبرَ أن يمكث في المسجد للضرورة، كالأحناف تمامًا، كما إذا نام في المسجد فاحتلم وتعذَّر خروجُه، والبابُ مغلقٌ، وليس هناك حالة ثانية، أو خاف على نفسه أو ماله، لكنْ يجب عليه التيمُّمُ فورًا، بغير تراب المسجد إن لم يجد ماءً أصلاً، هذا رأيُ السادة الشافعية.
رأي المذهب الحنبلي في موضوع قراءة القرآن و دخول المسجد للجنُب :
أما الحنابلة فأسهلُ، قالوا: يُباح للمحدِث حدثًا أكبرَ بلا عذر أن يقرأ ما دون الآية القصيرة، فقد أجازوا أن تقرأ آيةً قصيرة وأنت جنبٌ، أو حائض، أو نفساء، أو قدْرها من سورة طويلة، كالعصر، و المعوذتين، ومن البقرة أوَّلَ آية، ويحرم عليه قراءةُ ما زاد على ذلك، وله أن يأتيَ بذكرٍ يوافق القرآن، كالبسملة عند الأكل، وعند الركوب:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾
أما المرور بالمسجد والتَّردُّد فيه دون مُكثٍ فإنه يجوز، والمرور و التردد عند السادة الشافعية لا يجوز، وكذلك الأحنافُ، أما الحنابلة فأجازوا المرور والتردد، فإنه يجوز للجنب والحائض والنفساء حالَ نزول الدم إن أمِن تلويثَ المسجد أن تمرَّ به، وأن تتردَّد فيه، و يجوز للجنب أن يمكث في المسجد بوضوء، ولو من غير ضرورة، أما الحائض والنفساء فإنه لا يجوز لها المكثُ بالوضوء إلا إذا انقطع الدمُ، فإذا انقطع الدمُ يجوز لها أن تمكث في المسجد بوضوء هذا رأيُ السادة الحنابلة.
رأي المذهب المالكي في موضوع قراءة القرآن و دخول المسجد للجنُب :
بقيَ علينا رأيُ الماكلية. قال المالكية: لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآنَ إلا بشرطين؛ أحدهما: أن يقرأ ما تيسَّر من القرآن كآية و نحوها في حالتين؛ الحالة الأولى: أن يقصد التحصُّنَ من عدوٍّ، واجهَ عدواًّ، ربِّ اغفر لي ربِّ وارحمني، ذكَرَ آيةً قرآنية كقوله تعالى:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾
مثلاً إذا واجهَ عدواًّ، وذكرَ آيةً بنية التحصُّن بها من هذا العدوِّ جاز له ذلك عند الماكية. والحالة الثانية: أن يستدلَّ بها على حكمٍ شرعيٍّ في أثناءَ المناقشة، فذُكِر حكمٌ شرعيٌّ و قال له: هذا الحكمُ أساسُه هذه الآية، هذا ممكنٌ للجنب، أو الحائض، أو النفساء، وفيما عدا ذلك فإنه لا يحلُّ له أن يقرأ شيئًا من القرآن ؛ كثيرًا كان أو قليلاً، أما دخول المسجد فإنه يحرمُ على الجنب أن يدخله ليمكُث فيه، أو ليتَّخذه طريقاً يمرُّ منه، و لكن يُباح له دخول المسجد في صورتين؛ الصورة الأولى: ألا يجد ماءً يغتسل منه إلا في المسجد، كالأحناف و الشافعية، و ليس له طرقٌ إلا المسجد، فحينئذٍ يجوز له أن يمرَّ بالمسجد ليغتسل، و الصورة الثانية: أن يخاف من أذًى يلحقه و لم يجدْ له مأوى سوى المسجد، فإن له في هذه الحالة أن يتيمَّم و يدخل و يبيتُ فيه حتى يزول عنه ما يخاف. أما إذا كان مسافرًا أو كان مريضاً وكان جنبًا ولم يتيسَّر له استعمالُ الماء فله أن يتيمَّم و أن يدخل المسجدَ ويصلي فيه بالتيمُّم، و لكن لا يمكث فيه إلا للضرورة، وإذا احتلم في المسجد فإنه يجب أن يخرج سريعًا، وإذا أمكنه التَّيمُّمُ تيمَّم.
وكما ترون الأحكامُ كلها متشابهة، أي لا يجوز أن تقرأ من القرآن إلا في حالة الذكر البسملةُ والتعوذُّ، والاستدلالُ على حكم شرعي، لا يجوز أن تمكث في المسجد إلا في حالة الضرورة، هذا رأي الأئمة الأربعة في شأن قراءة القرآن ودخول المسجد للحائض و الجنب و النفساء.
و على كلٍّ تعقيبًا على أحكام الشرع في شأن دخول المسجد، هذه الأحكام الشرعية المفصَّلة على المذاهب من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، صفحة (120) فمن أراد أن يستزيدَ فلْيرجعْ إلى هذا الكتاب، و إلى هذه الصفحاتِ.
* * *
أبو حنيفة النعمان :
والآن إلى قصة من قصص التابعين، وقصَّةُ اليوم عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله تعالى، كان حسَن الوجه، وسيمَ الطَّلعة، عذبَ المنطق، حُلوَ الحديث، ليس بالطويل البائِن، ولا بالقصير الذي تنبو عنه العيونُ، وهو إلى ذلك لبَّاسٌ، أصلحوا رحالكم وحسِّنوا لباسَكم حتى تكونوا شامةً بين الناس، والنبيُّ الكريم كان يُعرَف بطيب المسك، و كان له ثيابٌ لا يلبسها إلا في المواسم، و عند حضور الوفود، فالأناقة في اللباس والنظافةُ مطلوبةٌ للمؤمن، وهو مع ذلك لبَّاسٌ، أنيقُ الثياب، بهِيُّ الطلعة، كثيرُ التَّعطُّر، ولكن ليس عطر المشايخ الثقيل، بل خفيف، إذا طلع على الناس عرفوه من طيبه قبل أن يروْه، ذلكم هو النعمانُ بنُ ثابتٍ، المُكنَّى بأبي حنيفةَ، أوَّلُ من فتقَ أكمامَ الفقه، و استخرج أروعَ ما فيه من طيوبٍ.
أدرك أبو حنيفة طرفًا من آخر عصر بني أمية، و آخَرَ من أول عصر بني العبَّاس فكان مخضْرماً، فأدرك الأمويِّين و العبَّاسيين، و عاش في زمنٍ أغدق فيه الخلفاءُ و الولاةُ على أصحاب المواهب إغداقًا حتى صار رزقُهم يأتيهم رغدًا من كلِّ مكان، وهم لا يشعرون، ومن علامات تقدُّم الأمم أن العباقرةَ والموهوبين يعيشون في كرامة عالية، و من علامات تخلُّف الأمم أن الأذكياءَ و العباقرة دخلُهم أقلُّ دخلٍ في المجتمع، فعاش أبو حنيفة في زمن أغدق فيه الخلفاءُ و الولاةُ على أصحاب المواهب إغداقًا حتى صار رزقُهم يأتيهم رغداً من كلّ مكان و هم لا يشعرون، قال الشاعرُ:
و لو كانت الأرزاقُ تجري مع الحِجا هلكْن إذًا من جهلهنَّ البهائمُ
***
الحِجا: العقول.
بَيْدَ أن أبا حنيفة أكرم علمَه و نفسَه عن ذلك، أكرم علمَه و نفسَه عن أن يأخذ من الأموال العامة، وحَزَم أمرَه على أن يأكل من كسب يمينه، وأن تكون يدُه هي العليا دائمًا، دعاه المنصورُ ذاتَ يوم إلى زيارته فلما صار عنده بالغ في إعظامه و إكرامه و التَّرحيب به، و أدنى مجلسَه منه، وجعل يُسائلُه عن كثيرٍ من شؤون الدين و الدنيا، فلما أراد الانصرافَ دفع إليه كيسًا فيه ثلاثون ألف درهم، على ما كان معروفًا من إمساك المنصور، ومع ذلك أعطاه ثلاثين ألف درهم، فقال له أبو حنيفة: يا أميرَ المؤمنين إني غريبٌ في بغداد و ليس لهذا المال موضعٌ عندي، و إني لأخشى عليه، فاحفظْه لي في بيت المال، حتى إذا احتجتُه طلبتُه منك،، فأجابه المنصورُ إلى رغبته، غيرَ أن الحياة لم تطُل بعدئذٍ بأبي حنيفة، فلما وافاه الأجلُ وُجِدتْ في بيته ودائعُ للناس تزيد على أضعاف هذا المبلغ، فلما سمع المنصورُ بذلك قال: يرحمُ اللهُ أبا حنيفة لقد خدعنا، و أبَى أن يأخذ منا شيئًا، بهذه الطريقة اعتذر.
ومرةً قال له: يا أبا حنيفة لو تغشَّيْتَنا، أي لو تزورنا و تتردّد علينا، فقال: و لِمَ أتغشَّاكم و ليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء؟ وكان أبو حنيفة رضي اللهُ عنه سريعَ البديهة، مرةً كان عند المنصور وكان أحدُ القضاة عدوًّا له لَدُودًا وأراد هذا القاضي أن يُحرِجَه، و أن يضعه في مأزِق، فقال: يا أبا حنيفة إذا أمرني الخليفةُ بقتل امرئٍ أَأَقتله أم أتريَّث ؟والخليفةُ جالسٌ، فقال له أبو حنيفة: الخليفةُ على الحق أم على الباطل؟ قال له: على الحق، قال: كُنْ مع الحق، فلما خرج قال: أراد أن يقيِّدَني فربطتُه، فكان سريعَ البديهة.
جود أبي حنيفة و بره بالناس :
وكان أبو حنيفة يوقنُ أنه ما أكل امرؤٌ لقمةً أزكى ولا أعزَّ من لقمةٍ ينالها من كسب يده، لذلك نجده يخصِّص شطرًا من وقته للتجارة، فقد جعل يتَّجِر بالخزِّ، و هناك قولٌ: و لو اتَّجر المؤمنون في الجنة لاتَّجروا بالخزِّ أي بالقماش، و لو اتَّجر الكفارُ في جهنم لاتَّجروا بالصَّرف أي صرفُ العملة، لقد جعل يتَّجر في الخزِّ وأثوابه، و كانت تجارتُه ذاهبةً آيبةً بين مدنِ العراق، لكنَّ الصرف له أحكام خاصة، و ليس مطلقًا، وأحياناً يضطرُّ الإنسان ليذهب إلى بلدٍ آخر أن يشتري العملةَ التي تروجُ هناك، فلا بدَّ من أناسٍ يقومون بهذا العمل، وهذا الموضوع ليس معناه أن هذا القول حكمٌ شرعيٌّ، الموضوع له حكمٌ مفصَّلٌ، و في وقتٍ آخر قد نبحثه إن شاء اللهُ، أما هذا فليس حكمًا شرعيًّا، كان له متجرٌ معروفٌ يقصِده الناسُ، و في هذا المتجر الصدقُ في المعاملة، والأمانةُ في الأخذ والعطاء، ولا ريبَ في أنهم كانوا أيضًا يجدون فيه الذَّوقَ الرفيعَ، وفيه الأقمشةٌ الحديثةٌ، واختيارُها جيَّدٌ، و لقد كانت تجارتُه تدُرُّ عليه خيرًا وفيرًا وتحْبوه من فضل اللهِ مالاً كثيرًا، فكان يأخذ المالَ من حِلِّه ويضعه في محلِّه، هذه عبارةٌ لطيفةٌ جدًّا، يأخذه من حِلِّه، أي في الحلال، ويضعه في محلِّه، فلقد عُرِف عنه أنه كلما حالَ عليه الحوْلُ أحصى أرباحَه من تجارته، واستبْقى منها ما يكفيه لنفقته ثم يشتري بالباقي حوائجَ القرَّاءِ و المحدِّثين، والفقهاء و طلاَّب العلم، وأقواتهم وكسوتهم، فحبَّذا المالُ أصونُ به عِرضي و أتقرَّب به إلى ربي، ويخصِّص لكلٍّ منهم مبلغًا من النقد العيني، ويدفع ذلك كلَّه لهم، ويقول: هذه أرباحُ بضائعكم أجراها اللهُ لكم على يدي، أي إنه اعتبر هذه الأموالَ أموالَ الفقراءِ، قال: هذه أرباحُ بضائعكم أجراها اللهُ على يدي، وهو أيضا لطيفٌ في إعطاء المال، وليس خذْ، خذْ هذا كسرتَ قلبَه، قال: هذه أرباحُ بضائعكم أجراها اللهُ على يدي، و اللهِ ما أعطيكم من مالي شيئًا، إنما هو فضلُ اللهِ عليَّ فيكم، هذه أموالُكم، فما في رزق اللهِ حولٌ لأحدٍ غيرِ اللهِ، قال: ولقد شرَّقتْ أخبارُ جودِ أبي حنيفة و سماحته وغرَّبتْ، وخاصَّةً مع جلسائه و أصحابه، من ذلك أن أحد جلسائه جاءه إلى متجره يومًا وقال: إنني بحاجةٍ إلى ثوب خزٍّ يا أبا حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما لونُه؟ فقال: كذا و كذا، قال: اصبِرْ حتى يقع لي فآخُذه لك، فما إن دارتْ الجمعةُ حتى وقع له الثوبُ المطلوبُ فمرَّ به صاحبُه فقال له أبو حنيفة: قد وقعتْ ليَ حاجتُك، و أخرج إليه الثوبَ فأعجبه و قال: كم أدفع لغلامك ثمنَه؟ قال: درهمًا، قال في استغرابٍ: درهمًا واحدا! قال: نعم، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا و اللهِ ما هزِئْتُ بأحدٍ قبلك ولا بعدك، و لا أهزاُ بأحدٍ وإنما اشتريتُ هذا الثوبَ و آخر معه بواحدٍ وعشرين، بعتُ الثوبَ الآخرَ بعشرين هذا الثوبُ أصبح ثمنُه عليك درهمًا واحدًا، و بقي عليَّ بدرهمٍ واحدٍ، وما كنتُ لأربحَ على جليسي، من مروءة الإنسانُ أن يراعيَ إخوانَه، فيشعر الأخُ أن له كرامةً عنده، و لو حفَّضتَ له خمسين بالمئة من الربح، يشعر أن له مكانة عندك، هذا من المروءة، جليسك، أخوك، قريبك، صاحبك،جاء لدكَّانك، فله سعرٌ خاصُّ، هكذا فعل أبو حنيفة، جاءتْه امرأةٌ عجوزٌ تطلبُ ثوبَ خزٍّ فأخرج لها الثوبَ المطلوب فقالت له: إنني امرأةٌ عجوزٌ و لا علم لي بالأثمان- بالأسعار - والنبيُّ الكريم قال: غبنُ المسترسِل ربًا، غبنُ المسترسِل حرامٌ " إذا كان الزبونُ غشيمًا، البائعُ المؤمن يخاف من الله، و يعطيه السَّعرَ الأدنى، والبائع الفاجر يجده مكسبًا كبيرا، فتكون عنده بضاعةٌ سيئة بسعر غالٍ، فيبيعها في فرح، فقالت: إنني امرأةٌ عجوزٌ و لا علمَ لي بالأثمان، و إنها أمانةٌ، فبِعْني الثوبَ بما قام عليك رأسَ ماله، وضِفْ إليه قليلاً من الربح- هامشًا قليلاً- فإنني ضعيفةٌ، فقال لها: إنني اشتريتُ الثوبَين الاثنين في صفقةٍ واحدة، بِعتُ أحدَهما برأس المال إلا أربعةَ دراهم، فَخُذِيه بهذه الدراهم الأربعة، و أعطاها أيضا الحدَّ الأدنى.
وذاتَ يومٍ رأى ثيابًا رثَّة على أحدِ جلسائه من إخوانه، فلما انصرف الناسُ ولم يبق في المجلس إلا هو والرجل على انفرادٍ، قال له: ارفعْ هذا المُصلَّى، وخذْ ما تحته، فرفع الرجلُ المصلَّى فإذا تحته ألفُ درهم، قال: خُذها وأصلِح من شأنك، وغيِّر لباسَك، فقال الرجل: إنني موسِرٌ- أنا غنيٌّ- و قد أنعم اللهُ عليَّ، ولا حاجة لي بها، فقال له أبو حنيفة: إذا كان اللهُ قد أنعم عليك فأين أثرُ نعمته؟ هكذا، أنت موسِرٌ وغنيٌّ وتلبس ثيابًا رثَّةً، إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، قال له: أمابلغك أن النبيَّ عليه الصلاة و السلام يقول: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " فينبغي عليك أن تصلح من شأنك حتى لا تُذِمَّ صديقَك.
وبلغ من جود أبي حنيفة و بِرِّه بالناس أنه كان إذا أنفق على عِيالِه نفقةً تصدَّق بمثلها على غيرهم من المحتاجين، أي إذا أتى لزوجته بثوب و كان ثمَّةَ أناس فقراء ينفق عليهم ما ينفق على أهله، وإذا اكتسى ثوبًا جديداً كسا المساكينَ بقدْر ثمنه، و كان إذا وُضِع الطَّعامُ بين يديه غَرَف منه ضعفَ ما يأكل منه عادةً، وأعطى الفقراءِ ثُلُثا الطبخة.
و ممَّا يُروى أنه قطع على نفسه العهدَ ألاَّ يحلفَ باللَّهِ في أثناء كلامه أبدًا وإذا حلف تصدَّق بدرهم فضَّةٍ، هكذا عاهد نفسَه، ثم تدرَّج في الأمرِ فجعل على نفسه عهدًا إن حلف بالله صادقًا لَيتَصدَّقنَّ بدينارٍ من ذهبٍ، حتى يعوِّد نفسَه ألا يحلفَ أبدًا، فكان إذا حلف صادقًاً تصدَّق بدينارٍ.